MrJazsohanisharma

على ضوء الشمعة: مذكرات طبيب عباسي

 


على ضوء الشمعة: مذكرات طبيب عباسي

الفصل الأول: رائحة الكمّون والزئبق

ليلة من ليالي الشتاء البغدادي، عام 327 للهجرة.
بردٌ رطبٌ يتسلل من النوافذ الخشبية المهترئة، يلامس أطراف أصابعي المرتجفة وأنا أُدوِّن، كما اعتدت، على ضوء شمعة وحيدة لا تكاد تقاوم زفير الريح الذي يتسلل من تحت الباب.

اسمي أبو الحارث بن علّان، طبيب في بيمارستان بغداد الكبير. لا أحمل في صدري غرور الرازي، ولا فلسفة ابن سينا، لكنني أحمل بقايا من حكمة تعلمتها من أبي، ومن شيوخٍ مرّوا كنسمة على دروب علم الطب، ثم غابوا.

في هذا المساء، دخل علينا مريض غريب، يرافقه خادمان بملابس فاخرة، تتدلّى من أحدهما خيوط الذهب. كان الرجل يترنّح، يمسك خاصرته كأن خنجرًا غُرس فيها.
– "إنه تاجر عطور كبير، يُقال إنه صاحب السوق في الكرخ"، همس لي يحيى، صديقي الممرض.

جلست أمامه. رائحة الكمّون والزعفران تنبعث من ملابسه، لكني شممت شيئًا آخر... شيئًا حادًا كطَعم الحديد.

مددت يدي بهدوء. نبضه مضطرب، ولسانه جاف.
فتحت محفظتي الجلدية الصغيرة وأخرجت منها مرآة فضية صغيرة، وضعتها أمام أنفه... التنفس ضحل.

سألته:
– "هل أكلت شيئًا غريبًا الليلة؟"
أجابني بصوت متهدج:
– "سمك مشوي... وزبيب من الشام... وقطعة من الحلوى... فيها لون أخضر."

نظرت إلى يحيى. في عقلي دق جرس خطر.

– زُرنيخ؟!
اللون الأخضر قد يعني وجود "زرنيخ نحاسي"، مادة سامة تُستخدم أحيانًا في تلوين الحلوى الفاخرة.

أمرت فورًا بإعداد شراب يحتوي على خليط من الفحم النباتي، وماء الخس المغلي، وقليل من عصير الخروب. وصفة تعلمتها من شيخ في حلب منذ سنوات.

بعد ساعة من المعالجة، بدأ وجه التاجر يستعيد لونه، لكنني لم أطمئن. طلبت أن يُراقب حتى الفجر.

في دفتر ملاحظاتي، كتبت حينها:

"بعض الأثرياء لا يموتون من الفقر، بل من الجشع... أو من حلوى ملونة بالسمّ."

أطفأت الشمعة، ومددت ظهري على السجادة. السكون يلف البيمارستان، وصوت الفئران أعلى الرفوف يذكّرني بأن حتى الطب، له حدود.
لكنني كنت راضيًا... على الأقل، هذه الليلة، لم أمسك بيد ميت.

الفصل الثاني: خفّة يدّ... ويد خفيّة

صباح اليوم التالي، استيقظت على صوت ضربات ناعمة على باب مخزن الأعشاب. لم يكن وقتًا معتادًا للزيارة، فأغلب المرضى نيام، ويحيى لم يكن من النوع الذي يطرق الأبواب بهدوء.

فتحت الباب، وإذ بفتاة لم أرها من قبل، في السادسة عشرة ربما، عيناها واسعتان كعيني غزال مذعور، ويداها ترتجفان وهي تمد إليّ رقعة ورقية.

قرأتها بسرعة:

"ابني لا يتكلم منذ أسبوعين... عيونه تنظر لكن لا ترى... يبلع ريقه، لكنه لا يجيب."

توقيع الرقعة: نُهى بنت عمار – دار المقرئ عبد الجليل – درب الزنج.

هممت بالسؤال، لكنها أشارت إلى عنقها، ولم تخرج من فمها سوى صوت هواءٍ مختنق.

– "أنتِ أيضًا؟!"، قلت متفاجئًا.

أومأت برأسها. فجأة... أحسست بشيء يربك صدري. حالة غريبة... صمتٌ معدٍ؟! مرض؟ سحر؟ أم خوف جماعي؟

طلبت منها أن تنتظر، وأخذت معي حقيبة فيها حبة قاقلة، وقطرات من زيت النعناع، وماء الورد المغلي. أدوات لا تُجدي في السحر، لكنها تُفيد إن كان السبب عضويًا.

في الطريق إلى درب الزنج، مررنا بسوق النحاسين. رائحة الحديد والعرق والغبار طغت على الهواء، لكنني لاحظت شيئًا: كل من يمر بجانب الفتاة يبتعد خطوة. خشية؟ أم إشاعة؟

وصلنا إلى البيت... فُتح الباب ببطء، وخرج رجل نحيل، يبدو عليه الوقار، لكن بعينين مجروحتين من السهر.

– "هو في الداخل يا أبا الحارث"، قال بصوت مبحوح.
– "هل ظهرت الأعراض فجأة؟"
– "بل بعد أن زارنا رجل غريب... قال إنه حكيم من نيسابور. شرب الولد من شرابه، ومنذها لم يعد كما كان."

دخلت الغرفة. الصبي على السرير، عيناه مفتوحتان بلا رمش، شفتاه مضمومتان، ولكن... يده اليمنى تتحرك ببطء، ترسم شيئًا غير واضح على غطاء السرير.

اقتربت. جلست على الأرض بجانبه، ثم قلت بهدوء:
– "إن كنت تسمعني، فاضغط بأصابعك مرّتين."

مرّتين.
ثم رسم بحركة أصبعه كلمة "نار".

كان يحاول الحديث بجسده.

أدركت أن الطفل لم يُصب بخرس عضوي... بل ربما بصدمة نفسية، أو تأثير مخدر معيّن.

شممت فمه... لا رائحة، لكن جلده بارد ومبلل. طلبت إناءً، وسكبت فيه قليلًا من الماء الساخن مع زهور البابونج والعرعر. جعلته يستنشق البخار، وببطء، بدأت عضلات وجهه تتحرك.

بعد ساعة، همس بكلمة واحدة فقط:
– "اليد."

– "أي يد؟!"
لكنه أغلق عينيه من جديد.

أدركت حينها... لسنا أمام مرضٍ فقط، بل أمام حادثة مخفية. و"اليد"... قد تكون مفتاح القصة.


ملاحظة الطبيب في مذكراته:

"ليست كل الأوبئة في الجسد... بعضها يسكن في الخوف، وبعضها في الذاكرة. الطبيب الجيد لا يبحث عن الداء فقط، بل عن القصة خلف الداء."



الفصل الثالث: "الحكيم الذي لا يُرى"


بغداد، في الليلة التي تلت زيارة الصبي، كانت ساكنة بشكل مريب. حتى نباح الكلاب اختفى.


عدتُ إلى البيمارستان منهكًا، ولكن ذهني لم يهدأ. لم أستطع التوقف عن تكرار الكلمة التي قالها الصبي: "اليد".

أي يدٍ هذه التي تُرعب الأطفال وتُسكت الألسنة؟


قررت أن أبدأ بالتحقيق. اتجهت إلى دار المقرئ عبد الجليل في وضح النهار، مدعيًا أنني جئت أطمئن على حالة الفتى. استقبلني الرجل بهدوء، لكن في عينيه ارتباك خفي.


– "يا أبا الحارث، ماذا تظن أن ولدي قد رأى؟"

– "أظنه رأى أكثر مما يتحمله قلب طفل."


أثناء خروجي، استوقفتني نهى عند الباب. هذه المرة، كانت تحمل بيدها قطعة قماش سوداء، تطويها بحذر شديد.


– "وُجدت تحت وسادة أخي بعد زيارته لذلك الغريب."


فتحتها... وكانت المفاجأة: كفّ جلدية بشرية محنطة، يتدلى منها خيطان من شعر داكن.

كان الجلد جافًا، كأنه مستخرج من مقبرة. رائحته خافتة لكنها مقيتة... مزيج من المسك والخل.


في زاوية الكف المحنطة، خُطت بالعربية الفارسية عبارة صغيرة بالكحل:


> "دُفنت في كاظمة... واستُخرجت بيمين النار."




شعرت بقشعريرة في عمودي الفقري.


من تعاليمي القديمة، علمت أن بعض من يسمّون أنفسهم "حكماء" في أطراف الدولة العباسية، وخاصة من خراسان، كانوا يجرّبون التداوي بأعضاء الموتى، يعتقدون أن لكل عضو "ذاكرة"، وقدرة على نقل القوة أو الأسرار.


لكن الأشد رعبًا؟

أن بعضهم اعتقد أن الأعضاء يمكن أن "تُبرمج" لإسكات الشهود أو زرع الطاعة. وهذا ما يُسمى في سجلات الأطباء القدماء بـ "إشارة اليد الثالثة".


عدت إلى البيمارستان مرعوبًا، وقررت أن أستعين بصديق قديم، اسمه أبو داوود النقاش، كان يومًا حكيمًا، ثم ترك الطب وتفرّغ لنسخ الكتب السرّية في مكتبة دار العلم.


أعطيته الكفّ، وقال بعد تأمل طويل:

– "هذه يد مأخوذة من امرأة، على الأرجح. طريقة التحنيط تدل على طقوس من بلاد ما وراء النهر... أنا لا أؤمن بالخرافات، لكن هذه الكف ليست مزحة. من استعملها أراد شيئًا محددًا: التحكم بالصمت."


في المساء، أُبلغنا أن التاجر الذي عالجناه قبل يومين... اختفى من غرفته. لم يخرج من الباب، ولم يشاهده الحراس.


في مذكرتي كتبت:

 "الصمت الآن لا يأتي من المرضى... بل من المدينة. وكأن شيئًا ما يُراد له أن يُنسى."




الفصل الرابع: عيون في الظلال

"اليد مأخوذة من امرأة"، قالها أبو داوود بصوت يشبه الهسيس. لكن تلك العبارة لم تكن سوى البداية.

في المساء، قررت أن أعود إلى سوق السراي، ليس لأشتري، بل لأراقب. فالفتى، الكف، والرجل الغريب... كلهم يرتبطون بمسار لم أعد أجرؤ على تجاهله.

تخفيت برداء قديم ووضعت كحلًا خفيفًا على وجهي لتغيير ملامحي، ثم جلست قرب مقهى صغير يطل على دكانٍ للعطارة، يُشاع أن صاحبه "يعرف أسماء لا تُقال".

مرّت ساعة، وربما أكثر، حين ظهر رجل يرتدي عباءة خضراء باهتة. وجهه لم أره من قبل، لكنه كان يحمل صندوقًا من خشب الزيتون، عليه ختم نيسابور.

تبعته بهدوء بين الأزقة. وصل إلى خانٍ مهجورٍ، لا يسكنه إلا الغبار وصدى الأحذية. لم يدخل، بل طرق ثلاث طرقات سريعة على الباب، ثم همس:
– "اثنان صمتوا... يبقى الثالث."

فُتح الباب. ولمحت يدًا تسحب الصندوق... يد أنثوية، بيضاء كالرماد. عندها، قررت أن أخاطر.

انتظرت حتى غادر، ثم اقتربت من الباب، ووضعت أذني عليه. كنت أسمع حفيف أوراق، وصوت ماء يُغلى، وهمسات بلغة غريبة... فارسية، لكن ممزوجة بشيء آخر، شيء أقدم.

ثم سمعت اسمًا: "يعقوب الحارثي".

شهقت دون إرادة. ذاك اسمي... لكنني لم أكن قد أخبرت به أحد من هؤلاء.

تراجعت خطوة، فانكسر تحت قدمي حجر صغير. ساد الصمت في الداخل... ثم صوت حاد:
– "نحن نُراقب أيضًا يا أبا الحارث."

لم أجرؤ على الانتظار. ركضت، لا أعرف إلى أين. وصلت إلى باب البيمارستان قبل أن تتهدج أنفاسي.

في تلك الليلة لم أنم. بل قضيتها أراجع كل كتاب قديم عن "اليد الثالثة"، عن الطقوس التي تستحضر الطاعة من خلال الرموز الجسدية، وعن جماعة كانت تُعرف في كتب المنصور القديم بـ"الحكماء المفقودين".

وفي الهامش بخط باهت، وجدت سطرًا واحدًا:

"من يملك اليد، يملك الصمت. ومن يملك اللسان، يملك الثورة."

مذكرة شخصية:

"حين يصبح الطب سلاحًا، والطبيب رسولًا للحقائق الممنوعة، فإن الضوء الوحيد الذي تملكه... هو شمعة في غرفة مغلقة."



الفصل الخامس: دار الظلال

مرّت أيام لا تُعدّ على القلب، وأنا أراقب بصمت... وأُراقَب.

علمت من أبو داوود أن اسم الجماعة هو "إخوان الرماد" – طائفة سرّية ظهرت بعد سقوط بيت الحكمة، يعتقدون أن الحقيقة لا تُقال، بل تُطمر... وأنّ الصمت خير من الفضيحة.

ذهبتُ إلى دار قديمة مهجورة في حي الكرخ، أخبرني عنها أحد المرضى القدماء. كانت خزانة كتب مقلوبة تخفي مدخلًا ضيقًا، يقود إلى سرداب. وفي الداخل... وجدت شيئًا لم يخطر لي أبدًا.

سجلات طبية لم تُنشر قط.
توقيعها: الطبيب الهاشمي – 189 هجري.
فيها وصف دقيق لحالات اختفاء، لصبية صمتوا فجأة، ولأدوات تُستخدم لنزع "الإرادة"... منها:

"كف محنطة مأخوذة من ضحية ماتت خنقًا، تستعمل على المريض لكتم نطقه، عبر التلويح بها في وقت محدد من الليل، مترافقة مع بخور مستخرج من رماد جمجمة طفل."

شعرت بالغثيان.

لكن أخطر ما وجدته... كان قائمة أسماء.
ومن بينها:
– عبد الجليل (المقرئ)
– حكيم نيسابور
– أحد مشرفي البيمارستان
– وأنا...

اسمي كُتب بينهم بخط مائل، وتحته ملاحظة:

"قد يشك... يُحتوى أو يُسكت."



الفصل السادس: الضوء الأخير

قررت أن أواجههم. لم أكن بطلًا، ولا فارسًا. كنت فقط طبيبًا... يحمل شمعة.

في تلك الليلة، تسللت إلى مجلسهم الخفي، في سرداب تحت دار النحاسين. وجدتهم يدخنون بخورًا أسود اللون، وعلى الجدار عُلّقت الكف... كأنها صليب طقوسي.

وقفت بينهم، وقلت:
– "هل الطب عندكم خرافة؟ أم أداة للسيطرة؟"

ابتسم أحدهم، رجل ملثم، وقال:
– "بل هو ميزان. وما لا يوازن، يُسكت."

رفعت دفتر الطبيب الهاشمي، وصرخت:
– "هذا كان طبيبًا... وهذا الدفتر سيُنشر! ستنكشفون!"

رمقني أحدهم بعينين جامدتين وقال:
– "لن يُصدّقك أحد. إنك الآن مجرد رجل... يرى الأشباح."

لكنني كنت قد سبقتهم بخطوة.

في الصباح التالي، وُزّعت نسخ من السجل بين طلاب الطب، في حلقات المساجد، وحتى في سوق الورّاقين.
وبين الناس... انتشرت حكاية "اليد التي تُسكت".

خافوا. وبدؤوا يتوارون.

المقرئ عبد الجليل اختفى. حكيم نيسابور لم يُرَ مجددًا. والفتى... تكلم أخيرًا.

خاتمة: مذكّرة الطبيب الأخيرة

"في ذلك الليل... كتبت على ضوء شمعة واحدة. لم أكن أملك جيشًا، ولا سلطة. فقط قلم، وبعض الحقيقة.

لا أعلم إن كنت أنقذت المدينة، لكنني أعلم أنّ شيئًا ما تحرر.

الصمت ليس طبيًا. ولا هو أمان.

الصمت هو خوف،

وأنا... لم أعد أخاف."

النهاية 


المصادر العلمية والتاريخية المستخدمة في بناء القصة:

  1. "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" – ابن أبي أصيبعة: لتوثيق معلومات عن الأطباء في العصر العباسي.
  2. "البيمارستانات في الإسلام" – دراسة للدكتور عبد الكريم علي: لفهم طريقة عمل المستشفيات العباسية.
  3. "تاريخ بغداد" – الخطيب البغدادي: لتفاصيل الحياة اليومية في بغداد العباسية.
  4. موسوعة الطب العربي القديم – إصدار معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب.
  5. مخطوطات بيت الحكمة – مقتطفات من الترجمات الطبية الفارسية واليونانية إلى العربية.
  6. مقالات أكاديمية من JSTOR وBrill حول الخرافات الطبية في القرون الوسطى الإسلامية.
  7. أحمد عيسى، الطب العربي الإسلامي: تطوره وأثره، دار الفكر العربي.
  8. راغب السرجاني، بيمارستانات العالم الإسلامي.
  9. أبو بكر الرازي، الحاوي في الطب.
  10. مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، السجل التاريخي للعلوم الطبية.
  11. مكتبة الكونغرس الأمريكية – قسم المخطوطات الطبية العربية.
  12. ويكيبيديا (مقالة "البيمارستان"، ومقالة "أبو بكر الرازي").

إرسال تعليق

أحدث أقدم

إعلان

إعلان