عندما التقت العفوية بالحكمة
في ظهيرة صيفية دافئة، حيث امتدت السنابل الصفراء على مدّ النظر كأنها بساط ذهبي، كانت الطفلة ليلى تمشي حافية القدمين على الطريق الترابي الضيق، ترتدي فستانًا سماويًا خفيفًا يرقص مع كل نسمة عابرة.
كانت عيناها تلمعان بالفضول، وقد جمعت بين يديها باقة صغيرة من الأزهار البرية التي قطفَتها قرب الساقية.
على حافة الطريق، بجوار سلة فارغة وقبعة قشية قديمة، جلست امرأة مسنّة، وجهها مجعّد كأرض عطشى، لكنه كان مضيئًا بشيء يشبه الدفء الممزوج بالحزن العميق. كانت تضع على رأسها وشاحًا باهت اللون، وقد أراحت يديها المتشققتين فوق ركبتيها، كأنها تنتظر شيئًا أو ربما أحدًا... أو لا شيء على الإطلاق.
توقفت ليلى لحظة، تطلّعت إليها بعينين بريئتين، دون خوف أو حذر.
اقتربت ببطء، كما يفعل من يرى زهرة نادرة على قارعة الطريق.
قالت بصوتها الصغير:
ـــ "هل أنتِ متعبة يا جدّتي؟"
رفعت العجوز رأسها ببطء، كمن يستفيق من حلم بعيد، ونظرت إلى الفتاة طويلاً قبل أن تبتسم ابتسامة كشروق الشمس بعد عاصفة طويلة.
ـــ "لا، يا صغيرتي... أنا فقط أستريح قليلاً."
صمتت ليلى لحظة، ثم جلست القرفصاء أمامها دون تردد، ووضعت باقة الأزهار على ركبتها.
ـــ "هذه لكِ."
حدّقت العجوز في الأزهار بدهشة حقيقية، كأنها لم تر وردة منذ أعوام.
مرّت يدها الخشنة ببطء فوق الزهور، ثم فوق شعر ليلى الذهبي المنساب.
ـــ "شكراً لكِ، لقد أعدتِ إليّ الربيع."
ضحكت ليلى، ضحكة صافية كالجدول، ثم سألتها بجدية الأطفال:
ـــ "لماذا تجلسين وحدك هنا؟"
أجابت العجوز بنبرة خفيفة كنسيم العصر:
ـــ "أنتظر... ليس أحدًا معينًا، فقط أنتظر أن يمرّ الوقت بلطف."
أسندت ليلى ذقنها إلى كفّيها، وقالت:
ـــ "لو أردتِ، يمكنني أن أجلس معكِ حتى يمرّ."
ضحكت العجوز هذه المرة، ضحكة قصيرة لكنها حقيقية، كأنها نسيت ثقل السنين لدقائق قليلة.
وأشارت إلى قطعة الحجر بجانبها:
ـــ "اجلسي، يا زهرتي الصغيرة."
جلستا هناك، على جانب الطريق، تتبادلان قصصًا صغيرة لا تهم أحدًا إلاهما:
عن عصفور فقد جناحه لكنه تعلم أن يغني بدلًا من الطيران، وعن حبة قمح كانت تحلم أن تصبح سماءً.
عن أيام الطفولة حين كانت العجوز تسرق حبات التوت من الحقول، وكيف أن الزمن يشبه النهر... لا يمكنك الإمساك بالماء مهما حاولت.
مرّت الساعات وهما هناك، في عالم صغير لا يعرف شيئًا عن الاستعجال، لا عن حسابات الوقت، ولا عن الحزن المقطر في أعماق الكبار.
مرّت عربة خيل بعيدة، ثم هدأ كل شيء مجددًا، وكأن العالم كله توقف ليتنفس معهما.
عندما بدأت الشمس تميل نحو المغيب، وقفت ليلى ونفضت الغبار عن قدميها الصغيرة.
ـــ "يجب أن أذهب... أمي تنتظرني."
نهضت العجوز أيضًا، بصعوبة، لكنها بابتسامة راضية.
مدت يدها نحو ليلى، لمصافحتها، فالتقتها الطفلة بعفوية لم تشبها شائبة.
لحظة المصافحة تلك كانت شيئًا لا يراه من يمرّون مسرعين:
لقاء بين العفوية النقية والحكمة المجروحة.
لقاء عابر، لكنه سيترك في قلب كل واحدة منهما أثرًا لا يُمحى.
تابعت ليلى طريقها نحو بيتها الخشبي البعيد، بينما جلست العجوز مجددًا على الحجر، وضمت باقة الأزهار إلى صدرها، كأنها تحمل كنزًا لا يعرفه أحد.
كانت تعلم أن ليلى ستنسى بعد أيام تفاصيل هذا اللقاء...
لكنها، هي، كانت تعرف أن لحظة واحدة من الصفاء قادرة على أن تهزم كل خيبات العمر.