ظلّ العهد
قصة قصيرة خيالية
الرماد
لم يكن الليل مختلفًا عن أي ليلة أخرى. القمر معلق في السماء كعادته، والنجوم تلمع فوق أسطح بيوت الطين في قرية "لوران"، كأنها لا تعرف أن شيئًا على وشك أن يتحطم.
سامر كان جالسًا قرب المدفأة، يقلب بين دفتي كتاب قديم وجده في الحقل منذ أسابيع. أوراقه ممزقة، واللغة التي كُتب بها لا تشبه شيئًا من ما تعلّمه في المدرسة الصغيرة. لكنه أحب رائحة الورق، وهدوء الكلمات المبهمة.
صوت خطوات والده خلفه قطعه عن أفكاره. – "الكتاب هذا... ما كان لازم تفتحه." – "ليش؟ لقيته بالتراب، يمكن يكون لشخص ضيّعه." – "هذا مو كتاب ضايع، هذا كتاب كان لازم يندفن."
سامر لم يفهم. أبوه، المزارع البسيط الذي بالكاد يرفع صوته، بدا غاضبًا... لا، خائفًا. وتلك كانت أول مرة يرى فيها ذلك الخوف في عينيه.
قبل أن يُكمل الحديث، دوّى صوت انفجار في طرف القرية. الأرض اهتزّت، والنوافذ ارتجّت في مكانها. خرج سامر ووالده راكضين، فوجدوا النيران تلتهم البيوت، والناس يصرخون في فوضى.
وسط الظلام، ظهروا... رجال يرتدون أردية سوداء، وأقنعة ذهبية تلمع مع وهج النيران. لا يتحدثون، لا يركضون، فقط يمشون ببطء، كأنهم يملكون الزمن كله.
والد سامر توقف فجأة. ثم التفت إليه، وقال بهدوء يشبه النهاية: – "اركض. لا تتوقف. خذ الكتاب، واهرب للغابة."
– "بس...!"
– "اركض يا سامر!"
لم تكن المرة الأولى التي يسمع فيها سامر كلمة "اركض"، لكنها كانت المرة الأخيرة التي يسمع فيها صوت أبيه.
ركض. والدموع في عينيه لا تطفئ نار القرية خلفه.
الصمت في الغابة
ركض سامر حتى اختفى صدى صراخ القرية خلف ظلال الأشجار. قلبه يخبط في صدره كطبلة حرب. لا يعرف إلى أين يركض، فقط يعرف أنه لا يستطيع التوقف.
الغابة لم تكن مألوفة، حتى لو كانت قريبة من بيته. في الليل، الأشجار تنحني بصمت، والهواء يُخفي أنفاسه. جلس تحت جذع شجرة كبيرة، يلهث. مدّ يده إلى الكتاب الملفوف في القماش، قلبه لا يصدق أن والده مات... لا، "اختفى".
نام تلك الليلة وهو ممسك بالكتاب كمن يحضن وعدًا.
رماد على اللسان
مرّت أيام.
كان يتغذى على التوت، يشرب من النهر، ينام على الأرض، ويقرأ الكتاب الذي بدأ يتفتح أمامه فجأة كأنه ينتظره. لم يكن الكتاب عادياً. كان يُحدث ضوءًا خفيفًا حين يلمسه، وكلماته تتغير أحيانًا أمام عينيه، كأنها تعيد سرد نفسها بطريقة يفهمها.
عرف أن الكتاب يُدعى "ظلّ العهد". وأنه يتحدث عن عهدٍ قديم، عقده بشر وسحرة وأرواح خفية منذ ألف عام، لمنع "كسر التوازن" بين العقل والسحر. كل ألف سنة، يظهر من سلالة البشر من يُولد بدم "الحارس". والحارس... لا يحمل قوة، بل سرًّا.
هو الآن الحارس.
الطريق إلى الحداد
علم من الكتاب أن هناك رجلًا يُدعى "الحدّاد الأعمى"، يعرف رموز الكتاب وقد يساعده. سافر سامر عبر قرى مهجورة، وجبال ممطرة، حتى وصل إلى مكان يُدعى "سُهد الغبار".
هناك، وجد الرجل. كان أعمى فعلاً، لكنّه رأى أشياء لا تُرى بالعين.
قال له: – "عرفت إنك قادم. ريحة الرماد تسبقك." – "أبي مات... كنت بس بدي أنتقم. بس هالشي كبر..." – "هواك صار نار. والنار يا فتى يا بتحرقك... يا بتحرق العالم."
أعطاه الحداد خنجرًا قديمًا محفورًا عليه رمز يشبه عينه، وقال له: – "ستواجه الحقيقة. وما رح تعجبك."
وجوه من ذهب
في إحدى القرى المسكونة، هاجمه رجال الأقنعة الذهبية. لكن هذه المرة، لم يهرب. قاوم. طعن أحدهم بالخنجر، وسقط القناع.
لحظة تجمّد فيها قلبه.
وجه أخيه الأكبر... "نائل". كان من المفترض أنه مات منذ عشر سنوات في حادث أثناء الحصاد.
– "نائل...؟"
– "أنت تأخرت يا أخي. أنا اخترت الحقيقة. وأبي كذب علينا."
نائل لم يكن شريرًا. بل كان يرى أن "العهد" يجب أن يُكسر، لأن العالم لم يعد عادلًا. السحرة يعيشون فوق البشر، الأرواح تتحكم في المصير، وهو يريد تحرير الجميع… حتى لو عبر الظلام.
– "رح تمشي معي، أو توقف ضدي."
– "إذا كان الثمن هو قتل أبونا... فأنا ضدك."
كسر العهد
بدأت الحرب. ليس بين جيوش، بل بين الأفكار. سامر جمع من بقي من سلالة الحُرّاس، وأعاد تحريك العهد القديم. واجه أخاه في معركة نهائية وسط أطلال مدينة مهجورة، حيث كانت الأختام القديمة تحمي آخر بقايا السحر.
نائل كان أقوى، أسرع، مدرّب. لكن سامر كان يحمل النية. والحقيقة.
وفي اللحظة التي كاد نائل يطعن أخاه، تردّد.
قال سامر: – "أنا ما جاي أقاتلك... جاي أذكّرك بأبونا."
نائل ارتجف. وبكى. طعن نفسه بالخنجر.
– "كمل الطريق... وخلّي العالم حرّ. بس لا تنسى مين نحنا."
ومات بين ذراعي أخيه.
الحارس الأخير
مرت سنوات.
العهد لم يُكسر، لكنه تغير. أصبح أكثر عدلًا، أكثر وعيًا. سامر أصبح رمزًا. لم يكن ملكًا، ولا ساحرًا، بل رجلًا تذكّر أن الإنسان العادي يمكنه أن يغيّر العالم.
وفي ليلة شتاء، عاد إلى القرية القديمة. لم يبقَ شيء منها، سوى الرماد. ركع على الأرض، ووضع الخنجر بجانب جذع الشجرة التي أنقذته.
همس:
– "خلصت القصة، يا أبي."
ثم مشى... تاركًا ظلّ العهد خلفه.
التسميات :
قصص وروايات